Saturday, January 27, 2007

شوارع - 4 ... المملكة

الأجزاء السابقة:
(4)
المملكة

بمرور الوقت منع الأطباء الأستاذ "شوكت" من زيارتي التي كانت تتسبب لي في إنهيار عصبي كل مرة رغم حرصه علي زيارتي يوميا ومحاولة رشوة الممرضين لزيارتي خلسة دون علم الأطباء حتي أنقطعت زيارته تماما.
ولم تكن الفترة التي قضيتها في مستشفي الأمراض العصبية والنفسية بالأسعد حالا من تلك التي قضيتها في الأوبرج ولكنها بالتأكيد كانت تجربة مختلفة، تجربة أكاد أجزم بأنها تجربة خارج كوكب الأرض بل خارج المجموعة الشمسية جميعها. مملكة الأمراض العصبية والنفسية هي بالتأكيد مملكة لها عالمها وسحرها الخاص، فهي المملكة الوحيدة التي يتكون شعبها من مجموعة من الملوك ولم يولد لها حاكم بعد. كل ملك من ملوك هذه المملكة ليس مطالب بالكد والسعي والعمل، بل بالعكس مطالب بالاسترخاء تماما والكسل المطلق، وكل ملك له رعيته الخاصة من معشر "العقلاء" مسخر لخدمته‘ فهناك الساذج الذي يتبرع بأمواله الخاصة للأنفاق علي الملوك "الكسالى" وهناك من يسهر علي حراسته ومن يهتم بطعامه وملبسه وهناك من يقوم علي تطبيبه. كان كلٍ له جيش جرار من العقلاء في خدمته ورهن إشارة منه.
أهم ما يميز هذه المملكة الحرية المطلقة لكافة الملوك بدون تدخل من أحد، وبالرغم من أن هناك بعض الملوك التي تنتعش بالتدخل في شؤون الآخرين، إلا أن حتى هؤلاء لهم مطلق الحرية الشخصية في التدخل والتطفل في شؤون الآخرين تماما مثلما من حق الآخر التصرف كيفما شاء دون أي اعتراض من أحد ، فاذا كان من حقك التدخل في شئوني الخاصة فمن حقي أيضا أنا أرزعك بالقفا.
للأسف أمضيت أيامي الأول في المملكة دون إدراك لهذا العالم الجديد ظاناً مني أني قد سجنت من جديد وأودعت مصحة نفسية وعصبية (حسب تصور معشر "العقلاء" للمملكة) إلي أن قابلت "علام" وعلام - كما علمت من عم حسين التمرجي - أنه كان مدرس رياضيات للمرحلة الإعدادية وهو خريج كلية العلوم قسم كيمياء وكان الأول علي دفعته وبدلاً من أن يتم تعينيه معيداً بالكلية‘ عُين إبن عميد الكلية وعندما رفع علام قضية علي الجامعة مطالباً بأحقيته في التعيين تم نقله من المدرسة التي كان يعمل بها في القاهرة إلي أخري بالوادي الجديد ومن الوادي الجديد عاد مرة أخرى إلي القاهرة ولكن ليس إلي الكلية ولا حتى إلي المدرسة التي كان يعمل بها ولكن إلي هنا ..في المصحة. حدثني بهذا عم حسنين عندما سألته عن علام هذا من يكون. وكنت قد ألتقيت به أول مرة في قاعة الطعام حيث تقابلنا وجها لوجه وعندما رآني كأن حية لسعته فأسقط صحن الطعام من يديه وصافحني بحرارة شديدة وأحترام مغالي فيه دون أن يتفوه بكلمة واحدة ثم أصبح كلما رآني ينحني باحترام شديد يذكرني بذلك الحاجب عندما قدم القهوة لوكيل النيابة.
في أحد الليالي وبينما كنت أجلس وحدي في الحديقة الخلفية للمصحة أقرأ رواية جابريل جارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة" هائماً في تلك المدينة والأحداث المشوقة لتلك العائلة اللاتينية العريقة، أحسست بظل خلفي فألتفت لأري علام خلفي مباشرة مبديا أسفه لما سببه لي من إزعاج، فابتسمت ودعوته للجلوس ومنذ ذلك الحين أصحبنا صديقين حميمين برغم الأحترام المغالي فيه الذي كان يتعامل به معي والذي عرفت منه أن سببه هو أنفي المجدوع وشفتاي الغليظتين وعيناي الغائرتين وجبهتي العريضة إضافة إلي شعري الأسود الداكن المجعد، فكل هذه الخصائص تؤكد أنني سليل عائلة فرعونية ملكية عريقة وأن الدم الملكي الفرعوني يجري في عروقي بعيدا عن الرعاع والدهماء الذين تاهت الدماء الفرعونية الأصيلة بينهم فخًربوا البلاد وعاثوا في الأرض فسادا ولوثوا نهر النيل. حدثني علام كثيرا عن السنتين اللتين قضاهما بالوادي الجديد حيث الهدوء والراحة والقدرة علي التركيز والإبداع وكيف أنه كان يدرس للتلاميذ الكيمياء بدلا من الرياضيات لأنه يعشقها وتوصل علام أثناء تلك الفترة - علي حد زعمه - إلي معادلة كيميائية تتيح تحويل مياه المجاري الملوثة إلي مياه نقية صالحة للشرب وفي نفس الوقت تنقية الهواء مما يحمله من ملوثات وذلك من خلال تربية فصيلة معينة من الديدان التي تعيش بكثرة في جزر الكاريبي وتغذيتها بمحلول كربوهيدرات البوتاسيوم مضافا إليها هيبوسيانيد المنجنيز بكميات محسوبة تحصل عليها هذه الديدان بسهولة ووفرة من خلال أمتصاصها من الملوثات الموجودة في الهواء، فتتحول بذلك جينات هذه الديدان إلي جينات حارة لتتكيف مع البيئة المصرية مخلفة ملايين الكائنات أحادية الخلية التي تتغذي بدورها علي كافة ملوثات المياه سواء الكيميائية أو البيولوجية ثم ما تلبث أن تموت متحولة إلي ثاني أكسيد الكربون الذي يذوب في المياه وذلك في سلسة من المعادلات الكيميائية والحيوية المعقدة التي شرحها لي علام بصبر شديد طيلة أكثر من عشرة أيام. وعندما فشل علام في مقابلة وزير البيئة لعرض مشروعه عليه قام بشرح الموضوع للسيد وكيل الوزارة مطالبا الوزارة باستيراد ديدان من جزر الكاريبي. كان هذا سبب كافٍ ناهيك عن تدرسيه علم الكيمياء للتلاميذ بدلا من الرياضيات للزج به إلي المصحة، وقد تتضح الصورة أكثر عندما نعلم أن السيد وكيل الوزارة كان صديق حميم لعميد الكلية التي تخرج منها علام وعين بها أبنه بدلا من علام.
بالرغم من أن مشاريع علام كلها علي كثرتها وبلا استثناء كانت لو عرضت علي وأنا في دنيا الغرباء خارج أسوار المصحة كنت بكل يقين قد حكمت عليها بالتطرف والجنون.
فهناك مثلا مشروع القضاء علي أزمة "العيش" ويتمثل في إلغاء كافة الأوراق الرسمية لما يلزمها من أهدار لطاقة القوي العاملة في مجالات لا طائل من ورائها ونتاجها مجرد أوراق لا تسمن ولا تغني من جوع فلو تحول مجمع التحرير مثلا إلي "طابونة" لإنتاج الخبز البلدي هل تتوقع بعد ذلك أن تعاني مصر والبلاد المجاورة من أزمة في الرغيف؟ فما بالك لو تحولت كل تلك المصالح الحكومية التي وظيفتها إنتاج أوراق إلي انتاج الخبز البلدي!
إلا أن أهم مشروعات علام والتي يضعها علي رأس أولوياته كان مشروع الغاء التعليم المقنع "علي غرار البطالة المقنعة" والاكتفاء فقط بمشاريع محو الأمية. و يري علام أن الدولة تنفق المليارات علي تعليم الجميع إجباريا بغض النظر عن مستوى ذكائه دون اعطاء هؤلاء الحق في الاختيار حيث يصر أن الغالبيية العظمي لهؤلاء كانت لو خيرت لأختارت "أن تأخذ حقها ناشف". ورغم عدم قناعتي في بادئ الأمر بهذا المشروع إلا أن صاحب الفكرة استطاع إقناعي بالحجة والبرهان بمشروعه العظيم هذا. فنحن فعلا لا نحتاج إلي كل هذا العدد من الجهلة مدعي العلم الحاصلين علي الشهادات بمختلف أنواعها بدأَ بشهادة رياض الأطفال إنتهاء إلي شهادة الدكتوراه، وفي آخر المطاف يأخذ كل مقعده علي قهوة "بطة". بينما تعاني قهوة "صرصار" بالسيدة "عيشة" من نقص متزايد في مرتاديها (قهوة صرصار هي ملتقي الحرفيين وتعد مقر رئيسي لهم). وكان يري علام سفها شديدا من حكومات كثيرة متعاقبة في الأنفاق علي هذا الشئ المسمي تعليما بدأ بما يتحمله أولياء الأمور من مصروفات ومشتريات مرورا بالتكاليف الباهظة للمنشآت التعليمية (نتيجة ارتفاع تسعيرة الرشاوي في المناقصات الحكومية)، ثم أجور من يطلق عليهم مدرسين، حيث يتسائل علام بدهشة: مالذي يدعو الحكومة إلي فتح منشآتها إلي ربات البيوت - يقصد المدرسات - لتقميع البامية وحياكة التريكو مع شرب الشاي والقهوة وممارسة النميمة دون أخذ مقابل أسوة بالنوادي!! بل بالعكس تدفع لهم نقودا أيضا!! وانتهاء بـ "الفردة" أو ما يتم تسميتها مجازا بـ "الدروس الخصوصية" وفي المقابل لا ترى في حياتك من هؤلاء "المتعلمين" خريجي هذه المنظومة الفاشلة داخل، سوى مجموعة من المعاتيه والحمقي وللتأكد قم بزيارة أي من دواوين الحكومة لتري عبقرية هؤلاء "المتعلمين".
ويعتمد مشروع علام في هذا إلي الاعتماد علي الجهود الذاتية في محو الأمية ثم إعطاء كل فرد نصيبه من الأموال المخصصة لتعليمه واعطاءه حرية التصرف بها كما يشاء سواء استثمارها في مشروع خاص أو السفر إلي الخارج لتلقي تعليما محترما أو "حتي يولع فيها بجاز ومحدش ليه عنده حاجه" طالما كانت تلك الأموال هي حصته من بيت المال.
كانت حجة "علام" بالفعل قوية وجعلتني بعد أن كنت مناهضا لهذا المشروع أشد تحمسا له من علام نفسه!! لدرجة جعلتني أقترح علي علام إستكمال المشروع بتحويل المدارس إلي طابونات (جمع طابونة) أسوة بمجمع التحرير، إلا أنه قد وضح لي أنه درس هذا الجانب أيضا في مشروعه ولكنه يهدف إلي تحويل هذه المنشآت إلي مقار لإنتاج "الفول المدمس" و"الطعمية بوينت وان" - Taa’100.1 - وهو الإصدار الجديد من الطعمية بعد التحديث الذي أخضعها إليه علام من خلال أبحاثه ومعادلاته الكيميائية المعقدة والتي أدت في النهاية إلي التخلص من الـ "الباجز" من أجنحة صراصير وخلافه والتي أرتبطت بالطعمية المتدوالة بالأسواق حاليا.
كنت أتدارس مع علام خططه ومشاريعه العملاقة عندما أقتحم خلوتنا في الحديقة الخلفية للمصحة شخص ذا وجه مألوف جدا لدي، أقرع الرأس تحيط بقرعته مجموعة شعيرات تكون هلالا دقيقا يرتدي نظارة طبية غليظة تخفي نصف وجهه العلوي تنمع نمو شاربه المربع، ذو كرش متدلي يسبق خطواته السريعة في رقصة كاركاتورية ... يرتدي زي الملوك الأبيض ويقبل علي بحرارة بالغة واشتياق لا يضاهيه اشتياق أنطونيو لكيلوباترا .. يهمس في اذني: "عملت نفسي مجنون مخصوص عشان أشوفك بس وأطمن عليك"....

7 comments:

safa said...

هايل ياأستاذ, أنا قرأت الأربع أجزاء, بجد ممتعة و ضاحكة جداً

بالتوفيق دائماً

بنوتة من وسط البلد said...

اسجل اعجابى الشديد بما سردت من احداث فى هذه القصة .. ولكن قد لا اتفق معك فى حقيقة وصف المصحة .. الا لو كانت مصحة خاصة وليست مصحة العباسية .. والتنى تتنافى تماما مع كل ما ذكرت للاسف لما تحتويه من قسوة وعنف وفقر اشد قسوة من المدعوء بجاز دكرور البلاليق .. رحمتك يا كريم

بس احيك على الوصف الدقيق لديدان الكاريبى .. ايه العظمة دى .. طلعتها فى دماغى اروح اصيف هناك

وبالنسبة لمنظومة التعليم فحدث ولا حرج .. ووصفت كتير مما اردت ذكره فى موضوع نشرته على مدونتى .. فاثرت الاختصار بينما فضت علينا باسهاب من وصفك العظيم .. بركاتك يا شيخ علام

ومنك لله يا شوكت

eman said...

انا قريت شوارع الاجزاء الاربعه وعجبتنى جدا بجد ممتعه اتمنالك مزيد من النجاح

قاسم أفندي said...

safa
أشكرك جدا وشهادة أعتز بها وأتمني أن أكون دائما عند حسن ظنك وأن أسعد دائما بزياراتك
خالص تحياتي وتقديري

بنوتة من وسط البلد
أشكر جدا متابعتك واهتمامك ..أسعد دائما بتعليقاتك علي ما أكتب

أيمان
أخجلتم تواضعنا .. شكرا جزيلا

Anonymous said...

قرأت الاربع ااجزاء لشوارع بجد تحفه و جميله جدا .. و الله على القفله في الجزء الرابع معرفش ليه لقتي مكركره من الضحك اصلها بجد حاجة تضحك

هايل بجد يا ايمن و في انتظار التالي
شد حيلك يلا و مرحبا باستاذ علام العبقري المجنون :))

Anonymous said...

هاى استاذ ايمن انا جيت ،، ايه دة مش مبسوط ؟ ماشى المهم
عجبتنى قوى قوى المملكه لذيذة بجد و بتتكلم على الى نفسى كنت اقوله من زامن فى موضوع التعيين بتاعى يلا الحمدلله انى مرحتش كان زمانى من شوية ستات البيوت الى بتتكلم عليهم
ربنا يوفقك يا رب

قاسم أفندي said...

جوجو
أشكرك وأتمنى أكون دايما عند حسن ظنك
الا صحيح مش ناوية تدخلي عالم المدونات بقي؟

رانيا
شرفتيني والله وسعيد بزيارتك
بالنسبة لموضوع المملكة والتعليم فمتنسيش ان ده كلام مجانين مش أكتر