Saturday, January 27, 2007

فاصل اعلاني


(شوارع ... برعاية شللكو *****)

تفخر "شللكو"بتقديم تحفة إنجازاتها العبقرية من خلال شاشة التلفزيون وفي عقر داركم وهتشترو يعني هتشترو ياولاد الهبلة..
شللكو بتقدملكو النهاردة (وبكرة وبعده وكل يوم) ترابيزة المكواة العبقرية "اللهلوبة"..
اللهلوبة غير أي ترابيزة مكواة تانية سكة ..
اللهلوبة ترايبزة المكواة اللي ست البيت مستحيل تستغني عنها وأي مرة وسخة يوصلنا أنها مش بتستعملها هنطلع تلاتة ميتين أهلها...
اللهلوبة .. ترابيزة بأربع رجلين غير بقيت الترابيزات التانية خالص
اللهلوبة .. ترابيزة مكواة تقدري تكوي عليها وانتي بتتفرجي علي التلفزيون
اللهلوبة .. لها سطح معد خصيصا عشان تكوي عليه
اللهلوبة .. ممكن تطبيقها بعد استعمالها واياكي تطبيقها اثناء استعمالها ...
... مش قولتلك غير بقيت الترابيزات المعفنة التانية
اللهلوبة .. مش هتصدقي ... تقدري تكوي عليها قمصان جوزك "البيضة" لما تقع منه وهو بيتفرج علي اعلاناتنا
اللهلوبة .. جايلكم النهاردة بعرض مدهش مش ممكن هتقدري تقاوميه وكمان معاها هدية محصلتش "بافتة" .. تعلقيها علي رقبتك وانتي بتكوي علي اللهلوبة وبتتفرجي علي اعلانتا في التلفزيون عشان متهطليش بريالتك علي المكواة وتبوظي قمصان جوزك
اللهلوبة + البافتة اللوزعية + مصاريف الفقع بتسعمية تسعة وتسعين جنيه بس
أتصلي الآن والا هنعيد الاعلان ده مرة تانية وتالته ورابعة لحد منطلع ميتين أهلك....
أتصلي والحقي الفرصة قبل ما بقية النسوان يجيبوها قبلك ويعايروكي

أحذروا التقليد


أنتي لسه قاعدة بتتفرجي ياروح أمك؟؟


قومي فزي أتصلي يالا



شوارع - 4 ... المملكة

الأجزاء السابقة:
(4)
المملكة

بمرور الوقت منع الأطباء الأستاذ "شوكت" من زيارتي التي كانت تتسبب لي في إنهيار عصبي كل مرة رغم حرصه علي زيارتي يوميا ومحاولة رشوة الممرضين لزيارتي خلسة دون علم الأطباء حتي أنقطعت زيارته تماما.
ولم تكن الفترة التي قضيتها في مستشفي الأمراض العصبية والنفسية بالأسعد حالا من تلك التي قضيتها في الأوبرج ولكنها بالتأكيد كانت تجربة مختلفة، تجربة أكاد أجزم بأنها تجربة خارج كوكب الأرض بل خارج المجموعة الشمسية جميعها. مملكة الأمراض العصبية والنفسية هي بالتأكيد مملكة لها عالمها وسحرها الخاص، فهي المملكة الوحيدة التي يتكون شعبها من مجموعة من الملوك ولم يولد لها حاكم بعد. كل ملك من ملوك هذه المملكة ليس مطالب بالكد والسعي والعمل، بل بالعكس مطالب بالاسترخاء تماما والكسل المطلق، وكل ملك له رعيته الخاصة من معشر "العقلاء" مسخر لخدمته‘ فهناك الساذج الذي يتبرع بأمواله الخاصة للأنفاق علي الملوك "الكسالى" وهناك من يسهر علي حراسته ومن يهتم بطعامه وملبسه وهناك من يقوم علي تطبيبه. كان كلٍ له جيش جرار من العقلاء في خدمته ورهن إشارة منه.
أهم ما يميز هذه المملكة الحرية المطلقة لكافة الملوك بدون تدخل من أحد، وبالرغم من أن هناك بعض الملوك التي تنتعش بالتدخل في شؤون الآخرين، إلا أن حتى هؤلاء لهم مطلق الحرية الشخصية في التدخل والتطفل في شؤون الآخرين تماما مثلما من حق الآخر التصرف كيفما شاء دون أي اعتراض من أحد ، فاذا كان من حقك التدخل في شئوني الخاصة فمن حقي أيضا أنا أرزعك بالقفا.
للأسف أمضيت أيامي الأول في المملكة دون إدراك لهذا العالم الجديد ظاناً مني أني قد سجنت من جديد وأودعت مصحة نفسية وعصبية (حسب تصور معشر "العقلاء" للمملكة) إلي أن قابلت "علام" وعلام - كما علمت من عم حسين التمرجي - أنه كان مدرس رياضيات للمرحلة الإعدادية وهو خريج كلية العلوم قسم كيمياء وكان الأول علي دفعته وبدلاً من أن يتم تعينيه معيداً بالكلية‘ عُين إبن عميد الكلية وعندما رفع علام قضية علي الجامعة مطالباً بأحقيته في التعيين تم نقله من المدرسة التي كان يعمل بها في القاهرة إلي أخري بالوادي الجديد ومن الوادي الجديد عاد مرة أخرى إلي القاهرة ولكن ليس إلي الكلية ولا حتى إلي المدرسة التي كان يعمل بها ولكن إلي هنا ..في المصحة. حدثني بهذا عم حسنين عندما سألته عن علام هذا من يكون. وكنت قد ألتقيت به أول مرة في قاعة الطعام حيث تقابلنا وجها لوجه وعندما رآني كأن حية لسعته فأسقط صحن الطعام من يديه وصافحني بحرارة شديدة وأحترام مغالي فيه دون أن يتفوه بكلمة واحدة ثم أصبح كلما رآني ينحني باحترام شديد يذكرني بذلك الحاجب عندما قدم القهوة لوكيل النيابة.
في أحد الليالي وبينما كنت أجلس وحدي في الحديقة الخلفية للمصحة أقرأ رواية جابريل جارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة" هائماً في تلك المدينة والأحداث المشوقة لتلك العائلة اللاتينية العريقة، أحسست بظل خلفي فألتفت لأري علام خلفي مباشرة مبديا أسفه لما سببه لي من إزعاج، فابتسمت ودعوته للجلوس ومنذ ذلك الحين أصحبنا صديقين حميمين برغم الأحترام المغالي فيه الذي كان يتعامل به معي والذي عرفت منه أن سببه هو أنفي المجدوع وشفتاي الغليظتين وعيناي الغائرتين وجبهتي العريضة إضافة إلي شعري الأسود الداكن المجعد، فكل هذه الخصائص تؤكد أنني سليل عائلة فرعونية ملكية عريقة وأن الدم الملكي الفرعوني يجري في عروقي بعيدا عن الرعاع والدهماء الذين تاهت الدماء الفرعونية الأصيلة بينهم فخًربوا البلاد وعاثوا في الأرض فسادا ولوثوا نهر النيل. حدثني علام كثيرا عن السنتين اللتين قضاهما بالوادي الجديد حيث الهدوء والراحة والقدرة علي التركيز والإبداع وكيف أنه كان يدرس للتلاميذ الكيمياء بدلا من الرياضيات لأنه يعشقها وتوصل علام أثناء تلك الفترة - علي حد زعمه - إلي معادلة كيميائية تتيح تحويل مياه المجاري الملوثة إلي مياه نقية صالحة للشرب وفي نفس الوقت تنقية الهواء مما يحمله من ملوثات وذلك من خلال تربية فصيلة معينة من الديدان التي تعيش بكثرة في جزر الكاريبي وتغذيتها بمحلول كربوهيدرات البوتاسيوم مضافا إليها هيبوسيانيد المنجنيز بكميات محسوبة تحصل عليها هذه الديدان بسهولة ووفرة من خلال أمتصاصها من الملوثات الموجودة في الهواء، فتتحول بذلك جينات هذه الديدان إلي جينات حارة لتتكيف مع البيئة المصرية مخلفة ملايين الكائنات أحادية الخلية التي تتغذي بدورها علي كافة ملوثات المياه سواء الكيميائية أو البيولوجية ثم ما تلبث أن تموت متحولة إلي ثاني أكسيد الكربون الذي يذوب في المياه وذلك في سلسة من المعادلات الكيميائية والحيوية المعقدة التي شرحها لي علام بصبر شديد طيلة أكثر من عشرة أيام. وعندما فشل علام في مقابلة وزير البيئة لعرض مشروعه عليه قام بشرح الموضوع للسيد وكيل الوزارة مطالبا الوزارة باستيراد ديدان من جزر الكاريبي. كان هذا سبب كافٍ ناهيك عن تدرسيه علم الكيمياء للتلاميذ بدلا من الرياضيات للزج به إلي المصحة، وقد تتضح الصورة أكثر عندما نعلم أن السيد وكيل الوزارة كان صديق حميم لعميد الكلية التي تخرج منها علام وعين بها أبنه بدلا من علام.
بالرغم من أن مشاريع علام كلها علي كثرتها وبلا استثناء كانت لو عرضت علي وأنا في دنيا الغرباء خارج أسوار المصحة كنت بكل يقين قد حكمت عليها بالتطرف والجنون.
فهناك مثلا مشروع القضاء علي أزمة "العيش" ويتمثل في إلغاء كافة الأوراق الرسمية لما يلزمها من أهدار لطاقة القوي العاملة في مجالات لا طائل من ورائها ونتاجها مجرد أوراق لا تسمن ولا تغني من جوع فلو تحول مجمع التحرير مثلا إلي "طابونة" لإنتاج الخبز البلدي هل تتوقع بعد ذلك أن تعاني مصر والبلاد المجاورة من أزمة في الرغيف؟ فما بالك لو تحولت كل تلك المصالح الحكومية التي وظيفتها إنتاج أوراق إلي انتاج الخبز البلدي!
إلا أن أهم مشروعات علام والتي يضعها علي رأس أولوياته كان مشروع الغاء التعليم المقنع "علي غرار البطالة المقنعة" والاكتفاء فقط بمشاريع محو الأمية. و يري علام أن الدولة تنفق المليارات علي تعليم الجميع إجباريا بغض النظر عن مستوى ذكائه دون اعطاء هؤلاء الحق في الاختيار حيث يصر أن الغالبيية العظمي لهؤلاء كانت لو خيرت لأختارت "أن تأخذ حقها ناشف". ورغم عدم قناعتي في بادئ الأمر بهذا المشروع إلا أن صاحب الفكرة استطاع إقناعي بالحجة والبرهان بمشروعه العظيم هذا. فنحن فعلا لا نحتاج إلي كل هذا العدد من الجهلة مدعي العلم الحاصلين علي الشهادات بمختلف أنواعها بدأَ بشهادة رياض الأطفال إنتهاء إلي شهادة الدكتوراه، وفي آخر المطاف يأخذ كل مقعده علي قهوة "بطة". بينما تعاني قهوة "صرصار" بالسيدة "عيشة" من نقص متزايد في مرتاديها (قهوة صرصار هي ملتقي الحرفيين وتعد مقر رئيسي لهم). وكان يري علام سفها شديدا من حكومات كثيرة متعاقبة في الأنفاق علي هذا الشئ المسمي تعليما بدأ بما يتحمله أولياء الأمور من مصروفات ومشتريات مرورا بالتكاليف الباهظة للمنشآت التعليمية (نتيجة ارتفاع تسعيرة الرشاوي في المناقصات الحكومية)، ثم أجور من يطلق عليهم مدرسين، حيث يتسائل علام بدهشة: مالذي يدعو الحكومة إلي فتح منشآتها إلي ربات البيوت - يقصد المدرسات - لتقميع البامية وحياكة التريكو مع شرب الشاي والقهوة وممارسة النميمة دون أخذ مقابل أسوة بالنوادي!! بل بالعكس تدفع لهم نقودا أيضا!! وانتهاء بـ "الفردة" أو ما يتم تسميتها مجازا بـ "الدروس الخصوصية" وفي المقابل لا ترى في حياتك من هؤلاء "المتعلمين" خريجي هذه المنظومة الفاشلة داخل، سوى مجموعة من المعاتيه والحمقي وللتأكد قم بزيارة أي من دواوين الحكومة لتري عبقرية هؤلاء "المتعلمين".
ويعتمد مشروع علام في هذا إلي الاعتماد علي الجهود الذاتية في محو الأمية ثم إعطاء كل فرد نصيبه من الأموال المخصصة لتعليمه واعطاءه حرية التصرف بها كما يشاء سواء استثمارها في مشروع خاص أو السفر إلي الخارج لتلقي تعليما محترما أو "حتي يولع فيها بجاز ومحدش ليه عنده حاجه" طالما كانت تلك الأموال هي حصته من بيت المال.
كانت حجة "علام" بالفعل قوية وجعلتني بعد أن كنت مناهضا لهذا المشروع أشد تحمسا له من علام نفسه!! لدرجة جعلتني أقترح علي علام إستكمال المشروع بتحويل المدارس إلي طابونات (جمع طابونة) أسوة بمجمع التحرير، إلا أنه قد وضح لي أنه درس هذا الجانب أيضا في مشروعه ولكنه يهدف إلي تحويل هذه المنشآت إلي مقار لإنتاج "الفول المدمس" و"الطعمية بوينت وان" - Taa’100.1 - وهو الإصدار الجديد من الطعمية بعد التحديث الذي أخضعها إليه علام من خلال أبحاثه ومعادلاته الكيميائية المعقدة والتي أدت في النهاية إلي التخلص من الـ "الباجز" من أجنحة صراصير وخلافه والتي أرتبطت بالطعمية المتدوالة بالأسواق حاليا.
كنت أتدارس مع علام خططه ومشاريعه العملاقة عندما أقتحم خلوتنا في الحديقة الخلفية للمصحة شخص ذا وجه مألوف جدا لدي، أقرع الرأس تحيط بقرعته مجموعة شعيرات تكون هلالا دقيقا يرتدي نظارة طبية غليظة تخفي نصف وجهه العلوي تنمع نمو شاربه المربع، ذو كرش متدلي يسبق خطواته السريعة في رقصة كاركاتورية ... يرتدي زي الملوك الأبيض ويقبل علي بحرارة بالغة واشتياق لا يضاهيه اشتياق أنطونيو لكيلوباترا .. يهمس في اذني: "عملت نفسي مجنون مخصوص عشان أشوفك بس وأطمن عليك"....

Thursday, January 18, 2007

شوارع - 3 .. الكابوس

الجزء الأول "خليك في حالك"
الجزء الثاني "الأوبرج"

(3)
الكابوس

كانت الأيام الثلاثة التالية للفترة التي قضيتها في "الأوبرج" من المفترض أن تكون بمثابة فترة نقاهة، حيث قررت أن أنعزل عن العالم الخارجي تماما، فأغلقت باب الشقة بالمفتاح وفصلت جرس الباب وكذلك فعلت بالهاتف، كنت لا أرغب في أي نوع من الإزعاج، لا أريد أن أفكر في أي شيء، لا أريد أن أشغل بالي بأي من منغصات الحياة أو مبهجاتها - إن كان لها مبهجات -، فقط كنت أريد ان أفكر في اللاشيء.. في الفراغ .. وددت لو أنتقلت بسفينة فضاء إلي كوكب خارج المجموعة الشمسية، الشمس تذكرني بالصباح والصباح يذكرني بالذهاب إلي العمل والذهاب إلي العمل يذكرني بشوكت في شرفته يلقي علي تحية الصباح اللزجة.. كرهت سماع هذه الكلمة المزعجة "صباح الخير". لا أريد أي شيء يذكرني بهذا العالم المزعج، عالم شوكت وشوارع والأوبرج ووكيل النيابة،. سددت كل المنافذ علي العالم الخارجي وقطعت كل سبل الإتصال به .. أستلقيت علي ظهري أحملق في الفراغ والظلمة التي فرضتها علي نفسي بعدم استعمال الأنوار حتى لا يشعر أحد بوجودي ويسبب لي أي نوع من أنواع الإزعاج. تكيفت عيناي مع الظلام وتشكلت أنواع مختلفة من الصور والأطياف، نجوم وهمية تتلألأ في الظلمة ثم تتلاشي وكأنها لم تكن، سلاسل ضوئية تظهر فجأة سابحة في اللاشيء وترتفع ثم ترتفع ثم تهوي في لحظة لتختفي في هوة سوداء سحيقة ليخرج من تلك الهوة شعاع أسود أو ربما لا يخرج اي شعاع علي الأطلاق، بالتأكيد أنا الآن خارج المجموعة الشمسية، أين هي تلك المجموعة اللعينة الآن؟ لا أريد شيء يذكرني بها .. هل هي تلك الحلقة المضيئة قريبا من الهوة السحيقة التي يصدر منها ذلك الشعاع الأسود؟ تلك الحلقة التي أخذت في النمو والأقتراب ثم الأقتراب حتي أصبحت تسيطر علي فراغي وعالمي المنعزل ولم أعد أري سواها ومن تلك الحلقة خرجت حلقات أخري أصغر من الحلقة الأم ومن كل حلقة وليدة خرجت عشرات بل مئات الحلقات الصغيرة وأخذت تشكل تلك الحلقات مجموعات هجومية لتغزو عالمي المنعزل وأقتربت الحلقات وأقتربت لأري تفاصيلها الدقيقة وقرونها التي تشبه قرون وحيد القرن وألسنتها الطويلة كالأفاعي، مئات بل الاف الألسنة الممتدة كالأفاعي، كلها تحملق في بعيون شرسة تريد التهام فريستها، عيون رأيتها من قبل عيون ترتدي نظارات طبية سميكة تخفي نصف وجهها العلوي.. القرون تمتد وتمتد مرتدية حمالات كتلك التي يرتديها وكيل النيابة. الألسنة تطول وتنساب في الفراغ بسرعة شديدة صوب رقبتي يتساقط منها لعاب أخضر كريه، والقرون تنمو وتتضخم بسرعة رهيبة ممزقة تلك الحمالات السخيفة ، إلي أعلي في الفراغ كانت هناك مئات من الحلقات الأخري تشكلت علي نحو مقزز مكونة الالاف من الأبراص تتسكع ببطء مكونة سماء وهمية تراقب ما يحدث تحتها بفضول وعته شديدين وكأنها طيور ضارية في إنتظار سقوط الفريسة والالتفاف حول الجيفة. وعلي الجانب خلف الهوة السوداء السحيقة ومضة نور تحاول الأقتراب بمثابرة واذا ما أقتربت أخذت شكل حمار ضخم له أسنان بارزة وعضلات مفتولة ووجه تعلوه الطيبة رغم إختفاءه خلف عشرات الآثار من الجروح العميقة، كان وجهه يشبه وجه شوارع إلي حد بعيد.
أتحسس رقبتي فلا أجدها واذا بها بين تلك الألسنة التي علي شكل الأفاعي، تعصرها وتلهو بها في نهم وسعادة بالغين، تلعق أذناى تاركة أثار ذلك اللعاب الأخضر الكريه حولهما وعلي كل وجهي، ثم تنزلق بانسيابية داخلهما الواحدة تلو الأخرى. وأذا برأسي يرتكز علي جسمي بلا رقبة، وتقترب بقعة النور التي تشكلت علي شكل حمار من جسمي ليستقطع بأسنانه البارزة جزءاَ كبيرا من لحم جسدي ويعيد تشكيل اللحم علي شكل رقبة محاولا تثبيت رأسي عليه ولكنه يفشل لتسقط الرأس علي الأرض محدثة صوتا مدويا فأستيقظ علي وقع هذا الصوت صارخا صرخات هيستيرية متواصلة، متحسسا رقبتي لأجدها مازالت في مكانها، أنظر حولي بقلق ورعب شديدين باحثا عن تلك الألسنة او تلك القرون والحمار لاراها تتلاشي بسرعة داخل الحلقات التي تبتلعها بدورها تلك الهوة السوداء السحيقة التي تتساقط بها أبراص السماء.
تكرر ذلك الكابوس في الليالي الثلاثة التي كان من المفترض أن تكون فترة نقاهة عشرات المرات وفي الليلة الثالثة أفقت لأجد نفسي مقيداَ في سرير أبيض في غرفة ذات جدران بيضاء وسقف مرتفع محاطاً بعدد لا بأس به من الممرضين مفتولي العضلات يمسك أحدهم بحقنة كبيرة في يده ببينما يتلفظ آخر ببعض الأدعية بينما هناك صوت آخر مميز أعرفه جيدا واحفظ نغماته اللزجة ونبرته السخيفة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويسترسل في حديث متواصل مع الممرضين عن حالتي وأنني كنت "زي الفل" ..ثم يكمل قائلا: سبحان الله نفس الموقف ده حصل مع مراتي التانية من عشر سنين ووو"... عندما أيقنت أن ذلك الصوت هو صوته هو وأنه هو الذي جاء بي إلي هذا المكان لأن الجار للجار أخذت في الصراخ محاولا التخلص من قيودي بهستيرية شديدة أنتهت حين أنغرزت الحقنة التي كانت بيد الممرض في جسمي وحينها لم أعد أشعر بشيء.

Wednesday, January 10, 2007

شوارع -2 .. الأوبرج

كانت هناك اثنتين وعشرين كتلة بشرية إضافة إليً أنا و"شوارع"، نقبع جميعا داخل ذلك الجحر المسمي بالحجز والواقع في البدروم الرطب لقسم الشرطة إضافة إلي بعض الكتل "الحشرية" الأخري والتي لا يستطيع جهاز التعداد والأحصاء معرفة أنواعها وأعدادها من ذباب (علي مختلف أنواعه) وبعوض ونمل وبراغيث وصبآن وصراصير وبعض الأبراص التي كانت علي ما يبدو تساعد الشاويش المرابط علي باب الحجز بدوريات ثابتة لمراقبة أمن الحجز. ورغم اختلاف القضايا التي زج بسببها هؤلاء جميعا إلي هذا المكان إلا أنهم يشتركون تقريبا في نفس الملامح مع اختلاف أماكن هذه الملامح علي وجوههم وعندها أيقنت أن كنية "شوارع" المكني بها صديقي محسن بالتأكيد ليس بسبب تلك الملامح "أو الشوارع" علي وجهه وإلا للقب كل هؤلاء بنفس اللقب وعندها بالتأكيد ستحدث أزمة كبيرة في التعرف ومخاطبة هذا المجتمع "الشوارعي".
قضيت ليلتي في الحجز قابعا خلف ظهر صديقي شوارع، محتميا به - رغم إمكانياته التي تضائلت أمامي عند رؤية هولاء - . وتحرش أعينهم وتحفزهم لأي هفوة قد تصدر مني بعد تلك التي كانت قد صدرت بالفعل عند دخولي ومخاطبتي أحدهم قائلا: "بعد إذن حضرتك" وعلي ما يبدو أن تلك اللغة لا تستعمل في هذه الأماكن فلأول مرة أدرك أن هذه الجملة "بعد إذن حضرتك" هي بالتأكيد جملة قبيحة وينقصها الأدب. أدركت ذلك مباشرة من وقع ذلك "القفا" الساخن الذي أصدر فرقعة مصدرها الجزء الخلفي من رقبتي ممزوجة بحشرجة صادرة من حنجرة خربة أشبه بصوت جرار سكة حديد متهالك قائلة :"ما تعدي يا روح أمك" أعقب ذلك تعليق ساخر من شوارعي آخر قائلا :" الكار بقي يلم يا جدعان" ولولا ظهور "شوارع" في الوقت المناسب لكان ذلك "الشلوت" عرف طريقه نحو مؤخرتي.
ألتزمت الصمت تماما منذ أن قبعت خلف ظهر شوارع بينما أنهمك هو في التسامر مع زملائنا في الحجز وسؤالهم عن أحوال بعض الأصدقاء والأحكام التي نالوها ظلما وجورا. فعرفت أن المعلم "سوسو" قد حكم عليه بتأبيدة بسبب تافه وهو أنه يتاجر في المخدرات
- آل أيه بيبيع حشيش ..
- لأ تقولش فوجئوا أنه بيبع حشيش ولا مكنوش بياخدوا منه الاتاوة
- ماهو لازمن ولاد الحرام دول ميسبوش حد يسترزق
- هما ممسكهوش غير لما لقوا المحروس الواد ابن الباشا الكبير زبون عنده
- طب مش كان يقول لأبوه يديله ..
- أو ع الأقل كان جاب كارت من أبوه .. أهو كان هيديله عليه ديسكاون (ديسكاونت أي تخفيض)
- ديسكاون .... هع هع هع هع
أما "الوله طيطة" فقد خرج بالسلامة بعد أن أمضي نصف المدة (عشر سنوات)
- جاته البلا مش وش نعمة
- حد يسيب الشهد ويجري ورا الفقر
- طب ده حتي المعلم عمله ليلة أما خرج مكنتش تحلم بيها أمه في ليلة فرحها
- آل أيه عايز يتوب بسلامته وهيفتح كشك أزوزة
- أزووووزة ؟؟؟ هع هع هع هع
كانت الحوارات مسلية رغم ما انتابها من ألفاظ نابية لم أفهم غالبيتها وخصوصا عندما سألني أحدهم بطريقة ساخرة ما اذا كنت "كاوتشة" أم لا .. فبادره شوارع بلكمة خاطفة في أنفه نافيا عني صفة الكاوتش وناسبا إياها إلي والد السائل مما أستنتجت معه أن هذه الكاوتشة بالتأكيد هي لفظ غير مهذب.
وانتابني أحساس عن مدى رهافة حس الأخوة الشوارعية عندما تحدثوا عن "العصافير" ولكن سرعان ما زال هذا الشعور عندي عندما تبين لي أنهم لا يقصدوا عصافير الكناريا أو السنونو ولكنهم يقصدون أنواع أخري من العصافير مثل "دقدق" و"فجلة" و"تامر" والذين كانوا يعملون لحساب ولاد الحرام "علي حد زعمهم".
كان موقعي خلف "شوارع" يواجه ذلك الشخص الصامت منذ أن دخلت والذي تختلف معالمه بعض الشئ عن ملامح الاخرين فبالرغم من كونه يشترك مع الاخرين في تلك الشوارع والأخاديد علي الوجه الا أنها كانت شوارع حديثة لازال بعضها يكتسي باللون البني للدم المتجلط. كان الأخوة شوارع يلفبونه لسبب ما لا أعلمه بـ "سلوى" وأن كان بعضهم حاول تلقيبي بـ "حنان" لولا أعتراض "شوارع". كانت آثار الارهاق والتعب بادية تماما علي "سلوى" لدرجة لا تتبين من خلالها ان كان مستيقظ أم نائم وكان من وقت لاخر يهذي بكلمات غير مفهومة اضافة الي بعض الأدعية والآيات القرآنية. رق قلب شوارع وبعض الأخوة الآخرين لحال "سلوى" وفهمت من حديثهم عنه أن تهمته خطيرة جدا تتجاوز خطورتها القتل والمخدرات والسرقة، وحالته يرثي لها ودعا له البعض بالرحمة أو الموت فالموت أهون مما هو فيه وعندما أستفسرت من شوارع عن تهمته فهمت أنه معتقل سياسي وعندها حمدت الله أني لا أحب السياسة ولا أذكر أني حتى كنت قد قرأت الصفحة الأولي في الجريدة في يوم ما.
أما "طيارة" ذلك الشخص النائم باستغراق تام في زواية مفروشة بباطنية ووسادة خشبية، فقد فهمت أنه بائع متجول لا يجد مكانا أخر للمبيت فهو يصطنع كل ليلة مشكلة ما مع الدورية، حين ينتهي من بيع بضاعته، ليلقي به في الحجز فيمضي ليلته مستمتعا بدفء الحجز حتي الصباح حين يأتي الضابط ووكيل النيابة فيفرجان عنه، وهكذا كل ليلة. أما عن سبب تلقيبه "طيارة" فالأمر لا يحتاج إلي عبقرية، بالتأكيد سبب هذا اللقب هو الصوت الصادر من حنجرته أثناء نومه والأشبه بمحرك طائرة نفاثة مما كان يضطر المتحدثين لتعلية أصواتهم بدرجة جهورية عالية مثل مغنيي الأوبرا والتي كانت دائما ما تنتهي بالكوبليه الأخير ذي الصوت المتحشرج الصادر من خلف باب الغرفة: "أخرس يابن "المضايقة" أنت وهو".
كنت الشخص قبل الأخير الذي ألقي به تلك الليلة إلي "الأوبرج" - كما يسميه الأخوة الزملاء - حيث تبعني شخص آخر في وقت متأخر أُلقي به إلينا متدحرجا لا تستطيع تبين أعضاء جسمه وأطرافه فهو أشبه إلي كرة كبيرة قذفت إلينا متبوعة بصوت جهوري "الزبون ده ترفيه .. عايزكم تتوصوا بيه يا رجالة" ها ها ها ها
لم أفهم كثيراً المقصود من تلك العبارة إلا بعد تعامل الأخوة الزملاء معه حين جردوه مما بقي من ملابسه وتبادلوا أفعال غريبة عادة ما لا يقوم بها الرجال بين بعضهم البعض ولكن من رد فعل الأخ "ترفيه" ساورني شك عميق في كونه ذكرا مثلهم، الغريب في الأمر حقا هي تلك الضحكات المجلجلة والعبارات الخادشة للحياء الصادرة من خارج باب "الأوبرج" واستغراق "طيارة" في نومه وهذيان "سلوى" المستمر وكأن ما يحدث هو أمر طبيعي جدا لا يدعوا إلي الانزعاج.
الا أن أكثر من لفت نظري هو الشاويش "بوش" أو هكذا كان يناديه الزملاء، يجلس الشاويش "بوش" علي كرسي خشب أمام باب الغرفة ولا أدري إن كانت وظيفته الأساسية هي الحراسة أم تلبية احتياجات النزلاء من سجائر علي أختلاف أنواعها "كوكو الضعيف" و "كعب أحمر" و "لف"، أو ساندوتشات فلافل أو مكالمات موبايل، والحرص علي تدوين طلبات الزبائن في نوتة صغيرة يحتفظ بها في صديرته الداخلية.
رغم التعاسة التي كنت أشعر بها طوال تلك الليلة، إلا أنه كانت تنتابني سعادة غريبة كلما خطر علي بالي أني سأعود يوما إلي الشقة فلا أجد الأستاذ "شوكت في إنتظاري.
في الصباح فتح باب "الأوبرج" مناديا علي المدعو فلان وفلان للعرض علي النيابة .. كنت أنا فلان الأول و"شوارع" هو فلان "الثاني".
بعد الانتظار بضعة ساعات مقيد اليدين في أسورة حديدية واحدة مع صديقي "شوارع" أقتادنا الشاويش إلي داخل غرفة وكيل النيابة..
كان شابا لا يتعدي الخامسة والعشرين من عمره يرتدي بذلة داكنة اللون يرتدي نصفها السفلي فقط ويضع الجاكت علي شماعة جانبية بينما يربط البنطلون بحمالة علي كتفيه النحيلين. رغم منظهره الهزيل لكن من خلال تعامل المحيطين به من كاتب العدل والشاويش وأمين الشرطة يتبين لك أنك تتعامل مع شخص لا يقل عن وزير عدل مثلا إن لم يكن إله العدالة عند الأغريق إذ كاد الحاجب أن يسجد له بعد تقديم له القهوة قائلا: "معاليك القهوة سعادتك علي المكتب .. سعادتك تأمر معاليك بخدمة تانية سعادتك؟"
لم ينظر إلينا حين سأل: مين فيكم الدكتور؟ فلم أتردد قائلا بصوت جهوري : "سعادتك أنا الدكتور معاليك" فأجاب " مش عيب عليك تبقي دكتور وتعمل كده.. دكتور وسخ.. أنا عارف أنتو دخلتوا طب إزاي، أكيد كنت بتغش، لعلمك أنا مجموعي كان يدخلني أي كلية بس أنا أخترت أدخل الحقوق بمزاجي" أطرقت ولم أعلق بل وأومأت برأسي مؤمناً علي كلامه. صمت برهة وهو يدور حولنا ثلاث دورات متعاقبة ثم جلس علي حافة مكتبه وأمسك بملف بيده وقال:" تقرير الطبيب الشرعي وصل .. الظاهر صحتك بقت علي قدها يا "شوارع"، الله يرحم زمان أما كنت تطبطب علي حد كان يجيله كسر في العمود الفقري، كان نفسي أبيتك عندنا كم ليلة لكن للأسف التقرير بيقول أن سبب الأغماء نوبة سكر وأن الرضوض التي علي جسم المدعو "شوكت" من جراء سقوطه علي الأرض مطابقا لأقواله وليس نتيجة تعدي بالضرب زي ما الشهود قالوا في المحضر ... يعني مضطر أخرجك للأسف..". ألتفت وكيل النيابة لزاوية الغرفة خلفنا ثم تابع قائلا: "أما أنت فأنا برضه مضطر برضه أدخلك الحجز أعاقب بيك البلاوي اللي جوا ... دانتا أجدع من الكهربا والفلكة .. ديتك بس أفك البلاستر اللي حطتهولك علي مكنة بقك... وسلم لي علي حقوق الأنسان ... هع هع هع .."
في لحظة واحدة ألتفت أنا وشوارع خلفنا لأري الأستاذ شوكت وهو مقيد بالأربطة الطبية والشاش علي أجزاء مختلفة من جسمه ولكن اللافت للنظر هو ذلك "البلاستر" الملصق بعناية علي فمه...